تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري

تفسير الخطيب الشربيني - ج ٤

المؤلف:

محمّد بن أحمد الخطيب الشربيني المصري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
978-2-7451-4207-0

الصفحات: ٧٢٨

وقوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ) أي : يا أمّة محمد جواب قسم مقدّر (فِيهِمْ) أي : إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء (أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) أي : في التبري من الكفار ، وكرّر للتأكيد. وقيل : نزل الثاني بعد الأول بمدّة. قال القرطبي : وما أكثر المكرّرات في القرآن على هذا الوجه. وقوله تعالى : (لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ) أي : الملك المحيط بجميع صفات الكمال (وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي : الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير بدل من الضمير في لكم بدل بعض من كل ، وفي ذلك بيان أنّ هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة (وَمَنْ يَتَوَلَ) أي : يوقع الإعراض عن أوامر الله تعالى فيوالي الكفار (فَإِنَّ اللهَ) أي : الذي له الإحاطة الكاملة (هُوَ) أي : خاصة (الْغَنِيُ) أي : عن كل شيء (الْحَمِيدُ) أي : الذي له الحمد المحيط لإحاطته بأوصاف الكمال ، فهو حميد في نفسه وصفاته ، أو حميد إلى أوليائه وأهل طاعته.

ولما نزلت الآية الأولى عادى المسلمون أقرباءهم من المشركين ، فعلم الله تعالى شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزل (عَسَى اللهُ) أي : أنتم جديرون بأن تطمعوا في الملك الأعلى المحيط بكل شيء قدرة وعلما (أَنْ يَجْعَلَ) أي : بأسباب لا تعلمونها (بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ) أي : كفار مكة (مَوَدَّةً) أي : بأن يلهمهم الإيمان فيصيروا لكم أولياء ، وقد جعل ذلك عام الفتح تحقيقا لما رجاه سبحانه ، لأنّ عسى من الله تعالى وعد ، وهو لا يخلف الميعاد (وَاللهُ) أي الذي له كمال الإحاطة (قَدِيرٌ) أي : بالغ القدرة على كل ما يريده ، فهو يقدر على تقليب القلوب وتيسير العسير (وَاللهُ) أي : الذي له جميع صفات الكمال (غَفُورٌ) أي : محاء لا عيان الذنوب وآثارها (رَحِيمٌ) يكرم الخاطئين إذا أراد بالتوبة ، ثم بالجزاء غاية الإكرام فيغفر لما فرط منكم في موالاتهم من قبل ، وما بقي في قلوبكم من ميل الرحم.

(لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٨) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٠) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (١١) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (١٣))

وقوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ) أي : الذي اختص بالجلال والإكرام (عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ) أي : بالفعل (فِي الدِّينِ) الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم. قال ابن زيد : هذا كان في أوّل الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال ، ثم نسخ. قال قتادة : نسخها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [التوبة : ٥] وقال ابن عباس : نزلت في خزاعة ، وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحدا ، فرخص الله تعالى في برّهم.

٢٨١

وقال أكثر أهل التأويل : إنها محكمة ، واحتجوا بأنّ أسماء بنت أبي بكر قدمت أمّها وهي مشركة عليها المدينة بهدايا ، فقالت أسماء : لا أقبل منك هدية ، ولا تدخلي علي بيتا حتى أستأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فسألته فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن تدخل منزلها ، وأن تقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها ، وفي ذلك إشارة إلى الاقتصار في العداوة والولاية ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحبب حبيبك هونا مّا عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وأبغض بغيضك هونا مّا عسى أن يكون حبيبك يوما ما» (١) وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه «أنّ أبا بكر الصدّيق رضى الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية ، وهي أمّ أسماء بنت أبي بكر فقدمت عليهم في المدّة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبين كفار قريش ، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطا وأشياء ، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ)(٢). (وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ) أي : لا ينهاكم عن أن (تَبَرُّوهُمْ) بنوع من أنواع البرّ الظاهرة ، فإنّ ذلك غير صريح في قصد المودّة (وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ) أي : تعطوهم قسطا من أموالكم على وجه الصلة قال ابن العربي : وليس يريد به من العدل ، فإنّ العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل وحكي أن القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه فأخذ عليه الحاضرون في ذلك فتلا عليهم هذه الآية (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له الكمال كله (يُحِبُ) أي : يثيب (الْمُقْسِطِينَ) أي : الذين يزيلون الجور ، ويوقعون العدل.

(إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ) أي : الذي له الإحاطة الكاملة علما وقدرة (عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ) أي : جاهدوكم متعمدين لقتالكم (فِي الدِّينِ) أي : عليه فليس شيء من ذلك خارجا عنه (وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ) أي بأنفسهم لبغضكم ، وهم عتاة أهل مكة (وَظاهَرُوا) أي : عاونوا غيرهم (عَلى إِخْراجِكُمْ) وهم مشركوا مكة. وقوله تعالى : (أَنْ تَوَلَّوْهُمْ) بدل اشتمال من الذين أي : تتخذوهم أولياء. وقرأ البزي بتشديد التاء ، والباقون بالتخفيف.

ولما كان التقدير فمن أطاع فأولئك هم المفلحون عطف عليه قوله تعالى : (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ) أي : يكلف نفسه الحمل على غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من المنابزة ، وأطلق ولم يقيد بمنكم ليعم المهاجرين وغيرهم ، والمؤمنين وغيرهم (فَأُولئِكَ) أي : الذين أبعدوا عن العدل (هُمُ الظَّالِمُونَ) أي : الغريقون في إيقاع الأشياء في غير مواضعها.

ولما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام ، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبين أحكام مهاجرة النساء بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقرّوا بالإيمان (إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ) أي : بأنفسهن (مُهاجِراتٍ) أي : من الكفار بعد الصلح معهم في الحديبية (فَامْتَحِنُوهُنَ) أي : بالحلف أنهنّ ما هاجرن إلا رغبة في الإسلام ، لا بغضا في أزواجهن الكفار ، ولا عشقا لرجال من المسلمين. كذا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يحلفهنّ.

__________________

(١) أخرجه الترمذي في البر حديث ١٩٩٧ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٢٤٧٤٢ ، ٤٤٠٩٩ ، والهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٨٨ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٦ / ٢٣٣.

(٢) أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد ٨ / ٨٩ ، والحاكم في المستدرك ٢ / ٤٨٥.

٢٨٢

قيل : إنّ سبب الامتحان أنه كان من أرادت منهنّ إضرار زوجها قالت : سأهاجر إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بامتحانهنّ (اللهُ) أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلما (أَعْلَمُ) أي : منكم ومن أنفسهنّ (بِإِيمانِهِنَ) هل هو كائن ، أم لا على وجه الرسوخ ، أم لا فإنه المحيط بما غاب كإحاطته بما شوهد ، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك سترا للناس (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ) أي : العلم الممكن لكم ، وهو الظنّ المؤكد بالإمارات الظاهرات بالحلف وغيره (فَلا تَرْجِعُوهُنَ) أي : بوجه من الوجوه (إِلَى الْكُفَّارِ) وإن كانوا أزواجا. قال ابن عباس : لما جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أنّ من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالحديبية بعد فأقبل زوجها وكان كافرا وكان صيفي بن الراهب ، وقيل : مسافر المخزومي فقال : يا محمد أردد علي امرأتي فأنت شرطت ذلك ، وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي «أنّ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجاء أهلها يسألونه أن يردّها ، وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد ، فردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أخويها وحبسها فقالوا للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ردّها علينا للشرط ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : كان الشرط في الرجال لا في النساء فأنزل الله تعالى هذه الآية» (١). وعن عروة قال كان مما اشترط سهل بن عمرو على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الحديبية أن لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا ، وخليت بيننا وبينه ، فكره المؤمنون ذلك وأبى سهل إلا ذلك ، فكاتبه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ذلك ، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدّة ، وإن كان مسلما حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل ، وهذا يومي إلى أنّ الشرط في ردّ النساء نسخ بذلك ، وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. وقال بعض العلماء : كله منسوخ بالقرآن ، وقالت طائفة : لم يشترط ردّهنّ في العقد لفظا ، وإنما أطلق العقد في ردّ من أسلم فكان ظاهر العموم اشتماله عليهنّ مع الرجال ، فبين الله تعالى خروجهنّ عن عمومه وفرق بينهنّ وبين الرجال لأمرين : أحدهما : أنهنّ ذوات فروج فحرمن عليهنّ ، الثاني : أنهنّ أرق قلوبا وأسرع تقلبا منهم ، فأما المقيمة منهنّ على شركها فمردودة عليهم (لا هُنَ) أي : المؤمنات (حِلٌ) أي : موضع حلّ ثابت (لَهُمْ) أي : الكفار باستمتاع ، ولا غيره. وقوله تعالى : (وَلا هُمْ) أي : رجال الكفار (يَحِلُّونَ لَهُنَ) أي : المؤمنات تأكيد للأوّل لتلازمهما. وقال البيضاوي : والتكرير للمطابقة والمبالغة ، والأولى لحصول الفرقة ، والثانية للمنع عن الاستئناف.

وقيل : أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين ، وهنّ مؤمنات. والمعنى : لم يحل الله تعالى مؤمنة لكافر في حال من الأحوال ، وهذا أدل دليل على أنّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها. وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين ، والصحيح كما قال ابن عادل : الأول لأنّ الله تعالى بين العلة ، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار.

ولما نهى عن الردّ وعلله أمر بما قدم من الأقساط إليهم فقال تعالى : (وَآتُوهُمْ) أي : أعطوا الأزواج (ما أَنْفَقُوا) أي : عليهنّ من المهور ، فإنّ المهر في نظير أصل العشرة ودوامها ، وقد

__________________

(١) أخرجه بنحوه البخاري في الشروط حديث ٢٧١١ ، ٢٧١٢.

٢٨٣

فوتتها المهاجرة فلا يجمع عليه خسارتان الزوجية والمالية وأما الكسوة والنفقة فأنهما لما يتجدّد من الزمان.

تنبيه : أمر الله تعالى برد ما أنفقوا إلى الأزواج ، وإنّ المخاطب بهذا الإمام. وهل يجب ذلك أو يندب؟ ظاهرة الآية الوجوب ، ولكن رجح الندب وعليه الشافعي ، لأنّ البضع ليس بمال فلا يشمله الأمان كما لا يشمل زوجية ، والآية وإن كان ظاهرها الوجوب محتملة للندب الصادق بعدم الوجوب الموافق للأصل ، وقال مقاتل : يردّ المهر للذي يتزوّجها من المسلمين ، وليس لزوجها الكافر شيء. وقال قتادة : الحكم في ردّ الصداق إنما هو في نساء أهل الذمّة ، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد عليهم الصداق. قال القرطبي : والأمر كما قال (وَلا جُناحَ) أي : حرج وميل (عَلَيْكُمْ) يا أيها المشرفون بالخطاب (أَنْ تَنْكِحُوهُنَ) أي : تجدّدوا زواجكم بهنّ بعد الاستبراء ، وإن كان أزواجهنّ من الكفار لم يطلقوهنّ لزوال العلق عنهنّ لأنّ الإسلام فرق بينهم ، قال الله تعالى : (وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) [النساء : ١٤١].

ولما كان قد أمر برد مهور الكفار فكان ربما ظنّ أنه مغن عن تجديد مهر لهنّ إذا نكحهنّ المسلم نفى ذلك بقوله : (إِذا آتَيْتُمُوهُنَ) أي : لأجل النكاح (أُجُورَهُنَ) أي : مهورهنّ ، وفي شرط ائتاء المهر في نكاحهنّ إيذان بأن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) جمع عصمة ، وهي هنا عقد النكاح ، أي : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّ بها فقد انقطعت عصمتها فلا يكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية ، والكوافر جمع كافرة كضوارب في ضاربة. قال النخعي : المراد بالآية هي المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر ، وكان الكفار يتزوّجون المسلمات ، والمسلمون يتزوجون المشركات ، ثم نسخ ذلك بهذه الآية فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان ، وهما على شركهما بمكة وأمّ كلثوم بنت عمرو الخزاعية أم عبد الله بن المغيرة فتزوجها أبو جهم بن حذافة ، وهما على شركهما بمكة فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قريبة فلا يرى عمر سلبه في بيتك فأبى معاوية ، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق الإسلام بينهما ، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص ، وكانت ممن فرّ إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم من نساء الكفار فحبسها وزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية. وقال الشعبي : كانت زينب بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وأقام أبو العاص بمكة مشركا ، ثم أتى المدينة وأسلم فردّها عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس بالنكاح الأوّل ، ولم يحدث شيئا. قال محمد بن عمرو في حديث بعد ست سنين ، وقال الحسن بن علي : بعد سنتين ، قال أبو عمر : فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين : إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها ، وإما أنّ الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ) يعني : في عدّتهن ، وهذا مما لا خلاف فيه أنه عنى به العدّة قال الزهري في قصة زينب : هذه كانت قبل أن تنزل الفرائض ، وقال قتادة : كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بينهم وبين المشركين.

تنبيه : المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان ، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها. وقيل : هي عامّة نسخ منها نساء أهل الكتاب ، فعلى الأول : إذا أسلم وثني ، أو مجوسي ولم تسلم أمرأته فرق بينهما ،

٢٨٤

وهو قول بعض أهل العلم منهم مالك والحسن وطاوس وعطاء وعكرمة وقتادة لقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) وقال بعضهم : ينتظر بها تمام العدّة ، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد ، واحتجوا بأن أبا سفيان بن الحارث أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته ، وكان إسلامه بمرّ الظهران ، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها ، فأخذت بلحيته وقالت : اقتلوا الشيخ الضال ، ثم أسلمت بعده بأيام فاستقرّا على نكاحهما لأنّ عدتها لم تكن انقضت ، قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته ، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما. قال الشافعي : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى : (بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) لأنّ نساء المؤمنين محرمات على الكفار كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر الوثنيات ولا المجوسيات لقوله تعالى : (لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ) ثم بينت السنة أن مراد الله تعالى من قوله هذا : أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا إن أسلم الثاني منهما في العدّة.

وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافرين الذمّيين : إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام فإن أسلم ، وإلا فرق بينهما ، قالوا : ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعا في دار الحرب ، أو في دار الإسلام ، وإن كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما ، وقد تقدّم أنّ اعتبار الدار ليس بشيء ، وهذا الخلاف إنما هو في المدخول بها.

فأمّا غير المدخول بها فلا نعلم خلافا في انقطاع العصمة بينهما إذ لا عدّة عليها ، وكذا يقول مالك في المرأة يرتد زوجها المسلم تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ) وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح وقال الشافعي وأحمد : ينتظر بها تمام العدّة ، فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة فذهب مالك والشافعي وأحمد إلى تمام العدّة ، وهو قول مجاهد ، وكذا الوثني تسلم زوجته إن أسلم في عدّتها فهو أحق بها ، كما أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدّتهما لما ذكر مالك في الموطأ.

قال بعض العلماء : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر ، قال : ولم يبلغنا أنّ امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم زوجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها ، إلا أن يقدم زوجها مهاجرا قبل أن تنقضي عدتها. وقال بعضهم : ينفسخ النكاح بينهما لما روى يزيد بن علقمة قال : أسلم جدّي ولم تسلم جدّتي ففرق بينهما عمر ، وهو قول طاوس وعطاء والحسن وعكرمة قالوا : لا سبيل له عليها إلا بخطبة (وَسْئَلُوا) أي : أيها المؤمنون الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفار مرتدّات (ما أَنْفَقْتُمْ) أي : من مهور نسائكم (وَلْيَسْئَلُوا) أي : الكفار (ما أَنْفَقُوا) أي : من مهور أزواجهم اللائي أسلمن. قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدّات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار : هاتوا مهرها ، ويقال للمسلمين : إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة ردّوا إلى الكفار مهرها ، وكان ذلك نصفا وعدلا بين الحالين (ذلِكُمْ) أي : الحكم الذي ذكر في هذه الآيات البعيدة تعلق الرتبة عن كل سفيه (حُكْمُ اللهِ) أي : الملك الذي له صفات الكمال ، فلا تلحقه شائبة نقص (يَحْكُمُ) أي : الله إذ حكمه على سبيل المبالغة (بَيْنَكُمْ) أي : في هذا الوقت وفي غيره على هذا المنهاج البديع ، وذلك لأجل الهدنة التي كانت وقعت بين النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبينهم ، وأمّا قبل الحديبية فكان النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم يمسك النساء ولا يردّ الصداق

٢٨٥

(وَاللهُ) أي : الذي له الإحاطة التامّة (عَلِيمٌ) أي : بالغ العلم لا يخفى عليه شيء (حَكِيمٌ) أي : فهو لتمام علمه يحكم كل أموره غاية الإحكام ، فلا يستطيع أحد نقض شيء منها.

روي أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله تعالى ، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزل قوله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) أي : واحدة فأكثر منهن ، أو شيء من مهورهن بالذهاب (إِلَى الْكُفَّارِ) مرتدات (فَعاقَبْتُمْ) فغزوتم وغنمتم من أموال الكفار فجاءت نوبة ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلا عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم ظلما (فَآتُوا) أي : فاحضروا وأعطوا من مهر المهاجرة (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ) أي : منكم من الغنيمة (مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي : لفواته عليهم من جهة الكفار. روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت : حكم الله تعالى بينهم فقال جلّ ثناؤه (وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا) فكتب إليهم المسلمون قد حكم الله تعالى بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا صداقها ، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها ، فكتبوا أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئا فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ) الآية. وقال ابن عباس : في قوله تعالى : (ذلِكُمْ حُكْمُ اللهِ) أي : بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم على بعض. قال الزهري : ولو لا العهد لأمسك النساء ولم يرد عليهم صداقا ، وقال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة ، وقالا : هي فيمن بيننا وبينه عهد ، وقالا : فمعنى (فَعاقَبْتُمْ) فاقتصصتم (فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا) أي : من المهور. وقال ابن عباس : معنى الآية إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة ، وليس بينكم وبينهم عهد ، ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري : يعطي من مال الفيء ، وعنه يعطى من صداق من لحق بها.

تنبيه : محصل مذهب الشافعي في هذه الآية : أنّ الهدنة لو عقدت بشرط أن يردوا من جاءهم منا مرتدا صح ، ولزمهم الوفاء به سواء أكان رجلا أو امرأة ، حرّا أو رقيقا ، فإن امتنعوا من ردّه فناقضون للعهد لمخالفتهم الشرط ، أو عقدت على أن لا يردوه جاز ، ولو كان المرتدّ امرأة فلا يلزمهم ردّه لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم شرط ذلك في مهادنة قريش ، حيث قال لسهل بن عمرو وقد جاء رسولا منهم «من جاءنا منكم رددناه ، ومن جاءكم منا فسحقا سحقا» (١) ومثله ما لو أطلق العقد كما فهم بالأولى ، ويغرمون فيهما مهر المرتدّة. فإن قيل : لم غرموا مهر المرتدّة ، ولم نغرم نحن مهر المسلمة على ما تقدم من الخلاف؟ أجيب : بأنهم قد فوتوا عليه الاستتابة الواجبة علينا ، وأيضا المانع جاء من جهتها ، والزوج غير متمكن منها بخلاف المسلمة الزوج متمكن منها بالإسلام ، وكذا يغرمون قيمة رقيق ارتدّ دون الحرّ ، فإن عاد الرقيق المرتد إلينا بعد أخذنا قيمته رددناها عليهم.

بخلاف نظيره في المهر لأنّ الرقيق بدفع القيمة يصير ملكا لهم ، والنساء لا يصرن زوجات.

فإن قيل : كونه يصير ملكا لهم مبنى على جواز بيع المرتد للكافر ، والصحيح خلافه.

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ١٧٨٤ ، بلفظ : اشترطوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن من جاء منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا ، فقالوا : يا رسول الله! أنكتب هذا؟ قال : «نعم إنه من ذهب منكم إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم ، سيجعل الله له فرجا ومخرجا».

٢٨٦

أجيب : بأنّ هذا ليس مبنيا عليه لأن هذا ليس بيعا حقيقة فاغتفر ذلك لأجل المصلحة ، وإن شرطنا عدم الرد.

فإن قيل : هل يغرم الإمام لزوج المرتدة ما أنفق من صداقها ، لأنا بعقد الهدنة حلنا بينه وبينها ، ولولاه لقاتلناهم حتى يردوها؟.

أجيب : بأنّ هذا ينبني على أنّ الإمام هل يغرم لزوج المسلمة المهاجرة ما أنفق ، وقد تقدم الكلام على ذلك.

فائدة : روي عن ابن عباس أنه قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان ، وكانت تحت شداد بن عياض الفهري ، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب ، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت ، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان ، وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة ، وزوجها عمرو بن عبد ود ، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل ، وأمّ كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر بن الخطاب رجعن عن الإسلام ، فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أزواجهنّ مهور نسائهم من الغنيمة.

ولما كان التحرّي في مثل ذلك عسرا فإنّ المهور تتفاوت تارة وتتساوى أخرى قال تعالى : (وَاتَّقُوا) أي : في الإعطاء والمنع وغير ذلك (اللهَ) الذي له صفات الكمال ، وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون (الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ) أي : متمكنون في رتبة الإيمان.

ولما خاطب المؤمنين الذين هم موضع الحماية والنصرة للدين أمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد الحكم بإيمانهن بمبايعتهن بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّبِيُ) مخاطبا له بالوصف المقتضي للعلم (إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ) جعل إقبالهن عليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا سيما مع الهجرة مصححا لإطلاق الهجرة عليهن (يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ) أي : كل واحدة منهن تبايعك على عدم الإشراك في وقت من الأوقات (بِاللهِ) أي : الملك الذي لا كفؤ له (شَيْئاً) أي من إشراك على الإطلاق (وَلا يَسْرِقْنَ) أي : يأخذن مال الغير بغير استحقاق في خفية (وَلا يَزْنِينَ) أي : يمكن أحدا من وطئهن بغير عقد صحيح (وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ) أي : بالوأد كما كان يفعل في الجاهلية من وأد البنات ، أي : دفنهن أحياء خوفا من العار والفقر (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ) أي : بولد ملقوط أو شبهة بأن (يَفْتَرِينَهُ) أي : يتعمدن كذبه بأن ينسبنه للزوج ، ووصفه بصفة الولد الحقيقي بقوله تعالى : (بَيْنَ أَيْدِيهِنَ) أي : بالحمل في البطون لأنّ بطنها التي تحمل فيها الولد بين يديها (وَأَرْجُلِهِنَ) أي : بالوضع من الفروج لأنّ فرجها الذي تلد منه بين رجليها ، أو لأنّ الولد إذا وضعته سقط بين يديها ورجليها.

وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة ، ومعنى : بين أرجلهن فروجهن. وقيل : ما بين أيديهن من قبلة أو جسة وبين أرجلهن الجماع. وروي أن هند لما سمعت ذلك قالت : والله إنّ البهتان لأمر قبيح ، وما يأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق (وَلا يَعْصِينَكَ) أي : على حال من الأحوال (فِي مَعْرُوفٍ) وهو ما وافق طاعة الله تعالى كترك النياحة ، وتمزيق الثياب ، وجز الشعر وشق الجيب ، وخمش الوجه (فَبايِعْهُنَ) أي : التزم لهن بما وعدن على ذلك من إعطاء الثواب في نظير ما ألزمن أنفسهن من الطاعة ، فبايعهن صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالقول ولم يصافح واحدة منهن. قالت عائشة رضى الله عنها «والله ما أخذ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على النساء قط إلا بما أمر الله عزوجل ، وما مست كف رسول الله

٢٨٧

صلى‌الله‌عليه‌وسلم كف امراة قط. وروي أنها قالت : كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئاً) إلى آخرها قالت : وما مست يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها» (١) وقالت أميمة بنت رقيقة «بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في نسوة فقال فيما استطعتن أطعن ، فقلت : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ارحم بنا من أنفسنا ، وقلت : يا رسول الله صافحنا ، فقال إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة» (٢). وروي «أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب ، وكان يشترط عليهن» (٣) وقالت أم عطية : «لما قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت ، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم فرددن عليه‌السلام فقال : أنا رسول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إليكن أن لا تشركن بالله شيئا الآية ، فقلن نعم ، فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ، ثم قال : اللهم اشهد» (٤) وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم «كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه فغمسن أيديهن فيه» (٥) وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم الفتح لمكة ، وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويبلغهن عنه أن لا يشركن بالله شيئا ، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد ، فقالت : والله إنك لتأخذ علينا أمرا ما رأيتك أخذته على الرجال ، وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولا يسرقن ، فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح ، وإني أصيب من ماله قوتنا فلا أدري أيحل لي أم لا ، فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وما غبر فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعرفها ، فقال لها : «وإنك لهند بنت عتبة» ، قالت : نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك.

وروي أنها قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك ، فهل عليّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي ، قال : «لا إلا بالمعروف» (٦) فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع وتأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة ، فقال لها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذلك أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف يعني من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة ، ثم قال : ولا يزنين ، فقالت هند : أوتزني الحرة ، فقال : ولا يقتلن أولادهن أي : بالوأد ، ولا يسقطن الأجنة ، فقالت هند : ربيناهم صغارا وقتلتهم يوم بدر كبارا ، وأنت وهم أعلم ، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم قال : (وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَ) فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح ، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق ، فقال :

__________________

(١) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٨٩١ ، ومسلم في الإمارة حديث ١٨٦٦ ، والترمذي حديث ٣٣٠٦.

(٢) أخرجه النسائي في البيعة حديث ٤١٨١ ، وابن ماجه في الجهاد باب ٤٣ ، ومالك في البيعة حديث ٢ ، وأحمد في المسند ٦ / ٣٥٧ ، ٣٥٩.

(٣) انظر الحاشية السابقة.

(٤) أخرجه القرطبي في تفسيره ١٨ / ٧١ ، وابن حبان في صحيحه ٣٠٤١.

(٥) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.

(٦) أخرجه البخاري في المظالم باب ١٨ ، مناقب الأنصار باب ٢٣ ، والنفقات باب ٥ ، والأيمان باب ٨٣ ، والأحكام باب ١٤ ، ومسلم في الأقضية حديث ٩.

٢٨٨

(وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ) فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا ، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء (١) قال أكثر المفسرين : معناه لا يلحقن بأزواجهن ولدا من غيرهن ، وكانت المرأة تلتقط ولدا تلحقه بزوجها وتقول : هذا ولدي منك فكان هذا من البهتان والافتراء. وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج ، وإن سبق النهي عن الزنا.

تنبيه : ذكر تعالى في هذه الآية لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم في صفة البيعة خصالا ستا صرح فيهن بأركان النهي ، ولم يذكر أركان الأمر وهي ست أيضا : الشهادة ، والزكاة ، والصلاة ، والصيام ، والحج ، والاغتسال من الجنابة ، وذلك لأن النهي دائم في كل زمان ومكان ، وكل الأحوال فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد.

وقيل : إن هذه المناهي كانت في النساء كثيرا ممن يرتكبها ، ولا يحجزهن عنها شرف النسب فخصت بالذكر لهذا ، ونحو هذا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لوفد عبد القيس «وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت» (٢) فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي لأنها كانت شهوتهم وعادتهم ، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة له فيها.

ولما كان الإنسان محل النقصان لا سيما النسوان رجاهن سبحانه بقوله تعالى : (وَاسْتَغْفِرْ) أي : اسأل (لَهُنَّ اللهَ) أي : الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في الغفران إن وقع منهن تقصير وهو واقع ، لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له صفات الكمال (غَفُورٌ) أي : بالغ الستر للذنوب عينا وأثرا (رَحِيمٌ) أي : بالغ الإكرام بعد الغفران تفضلا منه وإحسانا.

وروي أن ناسا من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك بقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا) أي : لا تعالجوا أنفسكم أن توالوا (قَوْماً) أي : ناسا لهم قوة على ما يحاولونه فغيرهم من باب أولى (غَضِبَ اللهُ) أي : أوقع الملك الأعلى الغضب (عَلَيْهِمْ) لإقبالهم على ما أحاط بهم من الخطايا ، فهو عام في كل من اتصف بذلك يتناول اليهود تناولا أوليا (قَدْ يَئِسُوا) أي : تحققوا عدم الرجاء (مِنَ الْآخِرَةِ) أي : من ثوابها مع إيقانهم بها لعنادهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع علمهم أنه الرسول المبعوث في التوراة (كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ) أي من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء.

وقيل : من أصحاب القبور بيان للكفار ، أي : كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة ، إذ تعرض عليهم مقاعدهم من الجنة لو كانوا آمنوا ، وما يصيرون إليه من النار فيتبين لهم قبح حالهم ، وسوء منقلبهم. وما قاله البيضاوي تبعا للزمخشري من أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من قرأ سورة الممتحنة كان له المؤمنون والمؤمنات شفعاء يوم القيامة» (٣) حديث موضوع.

__________________

(١) انظر الحاشية السابقة.

(٢) أخرجه البخاري في الإيمان حديث ٥٣ ، ومسلم في الأشربة حديث ١٩٩٥ ، والنسائي في الأشربة حديث ٥٦٤١ ، وابن ماجه في الأشربة حديث ٣٤٠١.

(٣) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٥٢١.

٢٨٩

سورة الصف

مدنية في قول الأكثرين ، وذكر النحاس عن ابن عباس أنها مكية ، وهي أربع عشرة آية ومائتان وإحدى وعشرون كلمة وتسعمائة حرف.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الملك الأعظم الذي لا كفء له (الرَّحْمنِ) الذي عم بفضله كل أحد من خلقه (الرَّحِيمِ) الذي خص من شاء من عباده فهيأه لعبادته وأهله.

(سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (٢) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (٣) إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (٥) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (٦))

(سَبَّحَ لِلَّهِ) أي : أوقع التنزيه الأعظم للملك الأعظم (ما فِي السَّماواتِ) من جميع الملائكة وغيرها كالأفلاك والنجوم (وَما فِي الْأَرْضِ) كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار. وقيل : اللام مزيدة ، أي : نزه الله وأتى بما دون من ، قال الجلال المحلي : تغليبا للأكثر ا. ه.

فإن قيل : ما الحكمة في انه تعالى قال في بعض السور سبح لله بلفظ الماضي ، وفي بعضها يسبح بلفظ المضارع ، وفي بعضها فسبح بلفظ الأمر؟.

أجيب : بأن الحكمة في ذلك تعليم العبد أن يسبح الله تعالى على الدوام كما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان ، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان ، والأمر يدل عليه في الحال فإن قيل : هلا قيل سبح لله السموات والأرض وما فيهما ، وهو أكثر مبالغة أجيب : بأن المراد بالسماء جهة العلو فيشمل السماء وما فيها ، وبالأرض جهة السفل فيشمل الأرض وما فيها (وَهُوَ) أي : وحده (الْعَزِيزُ) أي : الغالب على غيره أي شىء كان ذلك الغير ، ولا يمكن أن يغلب عليه غيره (الْحَكِيمُ) أي : الذي يضع الأشياء في أتقن مواضعها. روى الدرامي في مسنده قال : أنبأنا محمد بن كثير عن الأوزاعي عن يحيى ابن أبي كثير عن أبي سلمة عن عبد الله بن سلام قال : قعدنا مع نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فتذاكرنا ، فقلنا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملناه ، فأنزل الله تعالى : (سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)

٢٩٠

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ادّعوا الإيمان (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) حتى ختمها. قال عبد الله : «فقرأها علينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى ختمها ، قال أبو سلمة : قرأها علينا عبد الله بن سلام حتى ختمها ، قال يحيى فقرأها علينا أبو سلمة فقرأها علينا أبو يحيى ، فقرأها علينا الأوزاعي ، فقرأها علينا محمد فقرأها علينا الدرامي. انتهى. ولي بقراءتها سند متصل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم». وقال عبد الله ابن عباس : قال عبد الله بن رواحة : لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لعملناه فلما نزل الجهاد كرهوه. وقال الكلبي : قال المؤمنون : يا رسول الله لو علمنا أحب الأعمال إلى الله تعالى لسارعنا إليه فنزل (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) [الصف : ١٠] فمكثوا زمانا يقولون : لو نعلمها لاشتريناها بالأموال والأنفس والأهلين ، فدلهم الله تعالى عليها بقوله تعالى : (تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ) [الصف : ١١] الآية ، فابتلوا يوم أحد ففروا فنزلت الآية هذه تعييرا لهم بترك الوفاء.

وقال محمد بن كعب : لما أخبر الله تعالى نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بثواب شهداء بدر. قالت الصحابة : اللهم اشهد لئن لقينا قتالا لنفرغن فيه وسعنا ، ففروا يوم أحد فعيرهم الله تعالى بذلك. وقال قتادة والضحاك : نزلت في قوم كانوا يقولون : نحن جاهدنا وأبلينا ، ولم يفعلوا. وقيل : قد آذى المسلمين رجل ونكى فيهم ، فقتله صهيب وانتحل قتله آخر ، فقال عمر لصهيب : أخبر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنك قتلته ، فقال : إنما قتلته لله ولرسوله ، فقال عمر : يا رسول الله قتله صهيب ، قال : كذلك يا أبا يحيى ، قال : نعم ، فنزلت في المنتحل. وقال ابن زيد : نزلت في المنافقين ونداؤهم بالإيمان تهكم بهم وبإيمانهم ، وكانوا يقولون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه : إن خرجتم وقاتلتم خرجنا معكم ، وقاتلنا فلما خرجوا نكصوا عنهم وتخلفوا.

وقال القرطبي : هذه الآية توجب على كل من ألزم نفسه عملا فيه طاعة أن يفي به.

وفي صحيح مسلم عن أبي موسى : أنه بعث إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرأوا القرآن ، فقال : أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فاتلوه ، ولا تطولن عليكم الأمد فتقسوا قلوبكم كما قست قلوب من قبلكم ، وإنا كنا نقرأ سورة فشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها غير أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب. وكنا نقرأ سورة فشبهها بإحدى المسبحات فأنسيتها غير أني حفظت منها (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) فلبثت شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة. قال ابن العربي : وهذا كله ثابت في الدين لفظا ومعنى في هذه السورة ، وأما قوله : شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة ، فمعنى ذلك : ثابت في الدين فإن من التزم شيئا ألزمه شرعا. وقال القرطبي : ثلاث آيات منعتني أن أقضى على الناس (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) [البقرة : ٤٤](وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ) [هود : ٨٨] و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) وعن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أتيت ليلة أسري بي على قوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، كلما قرضت عادت ، قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء خطباء أمتك الذين يقولون ولا يفعلون ، ويقرؤون كتاب الله ولا يعملون به» (١).

__________________

(١) أخرجه أحمد في المسند ٣ / ١٢٠ ، ٢٣١ ، ٢٣٩.

٢٩١

تنبيه : قوله تعالى : (لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ) استفهام على وجه الإنكار والتوبيخ على أن يقول الإنسان عن نفسه من الخير ما لا يفعله ، إما في الماضي فيكون كذبا ، وإما في المستقبل فيكون خلقا وكلاهما مذموم. قال الزمخشري : لم هي لام الإضافة داخلة على ما الاستفهامية كما دخل عليها غيرها من حروف الجر في قولك : بم ، وفيم ، ومم ، وعم ، وإلام ، وعلام ، وإنما حذفت الألف لأن ما والحرف كشيء واحد ، ووقع استعمالهما كثيرا في كلام المستفهم ، وقد جاء استعمال الأصل قليلا والوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان. ومن أسكن في الوصل فلإجرائه مجرى الوقف كما سمع ثلاثة أربعة بالهاء وإلقاء حركة الهمزة عليها محذوفة ا. ه. ووقف البزي لمه بهاء السكت بخلاف عنه.

(كَبُرَ) أي : عظم. وقوله تعالى : (مَقْتاً) تمييز ، والمقت أشد البغض ، وزاد في تشنيعه زيادة في التنفير منه بقوله تعالى : (عِنْدَ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي يحقر عنده كل متعاظم ، وقيل : إن كبر من أمثلة التعجب. وقد عده ابن عصفور في التعجب المبوب له في النحو فقال : صيغة ما أفعله وأفعل به ، وفعل ، نحو كرم الرجل ، وإليه نحا الزمخشري فقال : هذا من أفصح الكلام وأبلغه في معناه قصد في كبر التعجب من غير لفظه ، كقوله : غلت ناب كليب بواؤها ، ومعنى التعجب تعظيم الأمر في قلوب السامعين لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله. وقوله تعالى : (أَنْ تَقُولُوا) أي : عظم من تلك الجهة أن يقع في وقت من الأوقات ، أو حال من الأحوال قولكم (ما لا تَفْعَلُونَ) فاعل كبر.

قال الرازي : وجه تعلق هذه السورة بما قبلها هو أن في السورة التي قبلها بين الخروج إلى الجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته بقوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي) [الممتحنة : ١] وفي هذه السورة بين ما يحمل المؤمن ويحثه على الجهاد بقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ) أي : الذي له جميع صفات الكمال (يُحِبُ) أي : يفعل فعل المحب مع (الَّذِينَ يُقاتِلُونَ) أي : يوقعون القتال (فِي سَبِيلِهِ) أي : بسبب تسهيل طريقه الموصلة إلى رضاه. وقوله تعالى : (صَفًّا) حال ، أي : مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد (كَأَنَّهُمْ) من شدة التراص والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في المركز (بُنْيانٌ) وزاد في التأكيد بقوله تعالى : (مَرْصُوصٌ) أي : ملزوق بعض إلى بعض ثابت كثبوت البناء.

وقال ابن عباس : يوضع الحجر على الحجر ، ثم يرص بأحجار صغار ، ثم يوضع اللبن عليه فيسميه أهل مكة المرصوص. وقال الرازي : يجوز أن يكون المعنى على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم ، حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص قال القرطبي : استدل بعضهم بهذه الآية على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس ، لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة. قال المهدوي : وذلك غير مستقيم لما جاء في فضل الفارس من الأجر والغنيمة ، ولا يخرج الفرسان من معنى الآية لأن معناها الثبات ، ولهذا يحرم الخروج من الصف إن قاومناهم إلا متحرفا لقتال ، كمن ينصرف ليكمن في موضع ويهجم ، أو ينصرف من مضيق ليتبعه العدو إلى متسع سهل للقتال ، أو متحيز إلى فئة يستنجد بها ولو بعيدة قليلة أو كثيرة ، فيجوز انصرافه لقوله تعالى : (إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ) [الأنفال : ١٦] وتجوز المبارزة لكافر لم يطلبها بلا كره ، وندب

٢٩٢

لقوي أذن له الإمام أو نائبه لإقراره صلى‌الله‌عليه‌وسلم عليها ، وهي ظهور اثنين من الصفين للقتال ، من البروز وهو الظهور ، فإن طلبها كافر سنت للقوي المأذون له للأمر بها في خبر أبي داود ، ولأن تركها حينئذ إضعافا لنا وتقوية لهم ، وإلا كرهت.

ولما ذكر تعالى الجهاد ذكر قصة موسى وعيسى عليهما‌السلام تسلية لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليصبر على أذى قومه ، مبتدئا بقصة موسى عليه‌السلام لتقدمه فقال تعالى : (وَإِذْ) أي : واذكر يا أشرف الخلق إذ (قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) أي : بني إسرائيل ، وقوله : (يا قَوْمِ) استعطاف لهم واستنهاض إلى رضا ربهم (لِمَ تُؤْذُونَنِي) أي : تجددون أذاي مع الاستمرار ، وذلك حين رموه بالأدرة كما مر في سورة الأحزاب ومن الأذى ما ذكر في قصة قارون أنه دس إلى امرأة تدعي على موسى الفجور ، ومن الأذى قولهم (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ) [الأعراف : ١٣٨] وقولهم : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] وقولهم : أنت قتلت هارون ، وغير ذلك. وقوله تعالى : (وَقَدْ تَعْلَمُونَ) جملة حالية ، أي : علمتم علما قطعيا تجدده لكم كل وقت بتجدد أسبابه بما آتيتكم به من المعجزات ، والكتاب الحافظ لكم من الزيغ (أَنِّي رَسُولُ اللهِ) الملك الأعظم الذي لا كفؤ له (إِلَيْكُمْ) ورسوله يعظم ويحترم لا أنه تنتهك جلالته وتخترم ، وأنا لا أقول لكم شيئا إلا عنه ، ولا أنطق عن الهوى (فَلَمَّا زاغُوا) أي : عدلوا عن الحق بمخالفة أوامر الله تعالى وبإيذائه. وقرأ حمزة بالإمالة والباقون بالفتح (أَزاغَ اللهُ) أي : الملك الذي له الأمر كله (قُلُوبَهُمْ) أي : أمالهم عن الهدى على وفق ما قدره في الأزل (وَاللهُ) أي : الذي له الحكمة البالغة لأنه المستجمع لصفات الكمال (لا يَهْدِي) أي : بالتوفيق بعد هداية البيان (الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) أي : العريقين في الفسق الذين لهم قوة المحاولة ، فلم يحملهم على الفسق ضعف فاحذروا أن تكونوا مثلهم في العزائم فتساووهم في عقوبات الجرائم ، وهذا تنبيه على عظيم إيذاء الرسل حتى إن أذاهم يؤدي إلى الكفر وزيغ القلوب عن الهدى.

ثم ذكر القصة الثانية بقوله تعالى : (وَإِذْ) أي : واذكر يا أشرف المرسلين إذ (قالَ عِيسَى) ووصفه بقوله (ابْنُ مَرْيَمَ) ليعلم أنه من غير أب وثبتت نبوته بالمعجزات (يا بَنِي إِسْرائِيلَ) فذكرهم بما كان عليه أبوهم من الدين وما أوصى به بنيه من التمسك بالإسلام ، ولم يقل : يا قوم ، كما قال موسى عليه‌السلام ؛ لأنه لا أب له فيهم وإن كانت أمه منهم ، فإن النسب إنما هو من جهة الأب ، وأكد لإنكار بعضهم فقال (إِنِّي رَسُولُ اللهِ) أي : الملك الأعظم (إِلَيْكُمْ) أي : لا إلى غيركم (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ) أي : قبلي (مِنَ التَّوْراةِ) التي تعلمون أن الله تعالى أنزلها على موسى عليه‌السلام ، وهي أول الكتب التي نزلت بعد الصحف وحكم بها النبيون ، فتصديقي لها مع تأييدي بها مؤيد ، لأن ما أقمت من الدلائل حق ومبين أنها دليلي فيما لم أنسخه منها ، كما يستدل بما قدمه من الإعلام ويراعيه ببصره. وقرأ أبو عمرو وابن ذكوان والكسائي بالإمالة محضة ، وقرأ حمزة ونافع بين بين بخلاف عنه عن قالون ، والباقون بالفتح (وَمُبَشِّراً) في حال تصديقي للتوراة (بِرَسُولٍ) أي : إلى كل من شملته الربوبية (يَأْتِي مِنْ بَعْدِي) أي : يصدق بالتوراة. فكأنه قيل : ما اسمه؟ قال : (اسْمُهُ أَحْمَدُ) والمعنى : أرسلت إليكم في حال تصديقي ما تقدمني من التوراة ، وفي حال تبشيري برسول يأتي من بعدي يعني أن ديني التصديق بكتب الله تعالى وأنبيائه جميعا ممن تقدم وتأخر.

٢٩٣

فإن قيل : بم انتصب مصدقا ومبشرا ، أبما في الرسول من معنى الإرسال أم بإليكم؟.

أجيب : بأنه بمعنى الإرسال لأن إليكم صلة للرسول فلا يجوز أن يعمل شيئا لأن حروف الجر لا تعمل بأنفسها ، ولكن بما فيها من معنى الفعل ، فإذا وقعت صلات لم تتضمن معنى فعل فمن أين تعمل.

وعن كعب : أن الحواريين قالوا لعيسى : يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال : نعم أمة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء ، كأنهم من الفقه أنبياء ، يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى الله منهم باليسير من العمل. وعن حبيش بن مطعم قال : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لي خمسة أسماء : أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعدي نبي» (١) وقد سماه الله تعالى رؤوفا ورحيما. وروي أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار ، واسمي في الزبور الماحي محى الله بي عبدة الأوثان ، واسمي في الإنجيل أحمد ، وفي القرآن محمد لأني محمود في أهل السماء والأرض» (٢) بل ذكر بعض العلماء أنه له ألف اسم. قال البغوي : والألف في أحمد للمبالغة في الحمد ، وله وجهان :

أحدهما : أنه مبالغة من الفاعل ، أي : ومعناه أن الأنبياء حمادون لله تعالى ، وهو أكثر حمدا من غيره.

والثاني : أنه مبالغة من المفعول ، أي : ومعناه أن الأنبياء كلهم محمودون لما فيهم من الخصال الحميدة ، وهو أكثر مبالغة وأجمع للفضائل والمحاسن والأخلاق التي يحمد بها ا. ه. وعلى كلا الوجهين منعه من الصرف للعلمية والوزن الغالب ، إلا أنه على الاحتمال الأول يمتنع معرفة وينصرف نكرة ، وعلى الثاني يمتنع تعريفا وتنكيرا لأنه يخلف العلمية الصفة ، وإذا نكر بعد كونه علما جرى فيه خلاف سيبويه والأخفش ، وهي مسألة مشهورة بين النحاة. وأنشد حسان يمدحه وصرفه (٣) :

صلى الإله ومن يحف بعرشه

والطيبون على المبارك أحمد

أحمد بدل أو بيان للمبارك ، وأما محمد فمنقول من صفة أيضا ، وهو في معنى محمود ولكن في معنى المبالغة والتكرار ، فأحمد هو الذي حمد مرة بعد مرة. قال القرطبي : كما أن المكرم من أكرم مرة بعد مرة ، وكذلك الممدح ونحو ذلك : واسم محمد مطابق لمعناه ، والله سبحانه وتعالى سماه قبل أن يسمي به نفسه ، فهذا علم من أعلام نبوته ، وكان اسمه صادقا عليه فهو محمود في الدنيا لما هدي إليه ونفع به من العلم والحكمة ، وهو محمود في الآخرة بالشفاعة. فقد تكرر معنى الحمد كما يقتضي اللفظ ، ثم إنه لم يكن محمدا حتى كان أحمد حمد ربه فنبأه وشرفه ، فلذلك تقدم اسم أحمد على الاسم الذي هو محمد فذكره عيسى فقال : اسمه

__________________

(١) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٥٣٢ ، ومسلم في الفضائل حديث ٢٣٥٤ ، والترمذي في الأدب حديث ٢٨٤٠ ، والدارمي في الرقاق باب ٥٩ ، وأحمد في المسند ٤ / ٨٠ ، ٨١ ، ٨٤ ، ٦ / ٢٥.

(٢) أخرجه ابن حجر في لسان الميزان ٥ / ١٠٨٧ ، بلفظ : «اسمي في التوراة والشمس وضحاها».

(٣) البيت من الطويل ، وهو في ديوان حسان بن ثابت ص ١٣٢.

٢٩٤

أحمد ، وذكره موسى عليه‌السلام حين قال له ربه : تلك أمة أحمد ، فقال : اللهم اجعلني من أمة محمد. فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد ، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له ، فلما وجد وبعث كان محمدا بالفعل.

وكذلك في الشفاعة يحمد ربه بالمحامد التي يفتحها عليه فيكون أحمد الناس لربه ، ثم يشفع فيحمد على شفاعته ، فدل ذلك على أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أشرف الأنبياء فاتحا لهم وخاتما عليهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وشعبة بفتح الياء ، والباقون بالسكون

وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَهُمْ) يحتمل أن يعود فيه الضمير لأحمد ، أي : جاء الكفار ، واقتصر على ذلك الجلال المحلي ، ويحتمل عوده لعيسى ، أي : جاء لبني إسرائيل (بِالْبَيِّناتِ) أي : من المعجزات العظيمة التي لا يسوغ لعاقل إلا التسليم لها ، ومن الكتاب المبين (قالُوا) أي : عند مجيئها من غير نظرة لتأمل (هذا) أي : المأتي به من البينات ، أو الآتي بها على المبالغة (سِحْرٌ) فكانوا أول كافر به ، لأن هذا وصف لهم لازم سواء بلغهم ذلك أم لا (مُبِينٌ) أي : في غاية البيان في سحريته. وقرأ حمزة والكسائي بفتح السين وألف بعدها وكسر الحاء ، وهذه القراءة مناسبة للتفسير الثاني ، والباقون بكسر السين وسكون الحاء ، وهذه مناسبة للتفسير الأول.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٧) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (٨) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (١٠) تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١١) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١٢) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (١٣) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (١٤))

(وَمَنْ) أي : لا أحد (أَظْلَمُ) أي : أشد ظلما (مِمَّنِ افْتَرى) أي : تعمد (عَلَى اللهِ) أي : الملك الأعلى (الْكَذِبَ) أي : بنسبة الشريك والولد إليه ، ووصف آياته بالسحر ، ووصف أنبيائه بالسحرة (وَهُوَ) أي : والحال أنه (يُدْعى) أي : من أي داع كان (إِلَى الْإِسْلامِ) أي : الذي هو أحسن الأشياء فإن له فيه سعادة الدارين ، فيجعل مكان إجابته افتراء الكذب على الله تعالى : (وَاللهُ) أي : الذي له الأمر كله فلا أمر لأحد معه (لا يَهْدِي الْقَوْمَ) أي : لا يخلق الهداية في قلوب من فيهم قوة المجادلة للأمور الصعاب (الظَّالِمِينَ) أي : الذين يخبطون في عقولهم خبط من هو في الظلام.

(يُرِيدُونَ) أي : يوقعون إرادة ردهم للرسالة بافترائهم (لِيُطْفِؤُا) أي : لأجل أن يطفئوا (نُورَ اللهِ) أي : الملك الذي لا شئ يكافئه (بِأَفْواهِهِمْ) أي : بما يقولون من كذب لا منشأ له غير الأفواه ، لأنه لا اعتقاد له في القلوب.

تنبيه : الإطفاء هو الإخماد يستعملان في النار وفيما يجري مجراها من الضياء والظهور ، ويفرق بين الإطفاء والإخماد من حيث إن الإطفاء يستعمل في القليل ، فيقال : أطفأت السراج ، ولا يقال : أخمدت السراج ، وفي هذه اللام أوجه : أحدها : أنها تعليلية كما مر ، ثانيها : أنها مزيدة في

٢٩٥

مفعول الإرادة ، وقال الزمخشري : أصله يريدون أن يطفئوا كما في سورة التوبة ، وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة توكيدا له ، لما فيها من معنى الإرادة في قولك : جئتك لإكرامك ، كما زيدت اللام في : لا أب لك تأكيدا لمعنى الإضافة في لا أباك.

قال الماوردي : وسبب نزول هذه الآية ما حكاه عطاء عن ابن عباس : «أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبطأ عليه الوحي أربعين يوما ، فقال كعب بن الأشرف : يا معشر يهود أبشروا فقد أطفأ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم أمره ، فحزن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية» (١) ، واتصل الوحي بعدها واختلف في المراد بالنور ، فقال ابن عباس : هو القرآن ، أي : يريدون إبطاله وتكذيبه بالقول. وقال السدي : الإسلام ، أي : يريدون رفعه بالكلام. وقال الضحاك : إنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أي : يريدون هلاكه بالأراجيف وقال ابن جريج : حجج الله تعالى ودلائله ، يريدون إبطالها بإنكارهم وتكذيبهم. وقيل : إنه مثل مضروب ، أي : من أراد إطفاء نور الشمس بفيه فوجده مستحيلا ممتنعا ، كذلك من أراد إطفاء الحق (وَاللهُ) أي : الذي لا مدافع له لتمام عظمته (مُتِمُّ نُورِهِ) فلا يضره ستر أحد له بتكذيبه ولا إرادة إطفائه ، وزاد ذلك بقوله تعالى : (وَلَوْ كَرِهَ) أي : إتمامه له (الْكافِرُونَ) أي : الراسخون في جهة الكفر المجتهدون في المحاماة عنه.

(هُوَ) أي : الذي ثبت أنه جامع لصفات الكمال والجلال وحده من غير أن يكون له شريك أو وزير (الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) أي : الحقيق بأن يعظمه كل من بلغه أمره لأن عظمته من عظمته ، ولم يذكر حرف الغاية إشارة إلى عموم الإرسال إلى كل من شمله الملك كما مضى (بِالْهُدى) أي : البيان الشافي بالقرآن والمعجزة (وَدِينِ الْحَقِ) أي : والملة الحنيفية (لِيُظْهِرَهُ) أي : يعليه مع الشهرة وإذلال المنازع (عَلَى الدِّينِ) أي : جنس الشريعة التي ستجعل ليجازى من يسلكها ومن يزغ عنها بما يشرع فيها من الأحكام (كُلِّهِ) فلا يبقى دين إلا كان دونه ، وانمحق به وذل أهله ذلا لا يقاس به ذل (وَلَوْ كَرِهَ) أي : إظهاره (الْمُشْرِكُونَ) أي : المعاندون في كفرهم الراسخون في سلك المعاندة.

فإن قيل : قال أولا : (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ،) وقال ثانيا : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ،) فما الحكمة في ذلك؟.

أجيب : بأنه تعالى أرسل رسوله ، وهو من نعم الله تعالى ، والكافرون كلهم في كفران النعم سواء فلهذا قال (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) لأن لفظ الكافر أعم من لفظ المشرك فالمراد من الكافرين هنا اليهود والنصارى والمشركون ، فلفظ الكافر أليق به. وأما قوله تعالى : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) فذلك عند إنكارهم التوحيد وإصرارهم عليه ، لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ابتداء الدعوة أمر بالتوحيد بلا إله إلا الله فلم يقولوها ، فلهذا قال : (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.)

واختلف في سب نزول قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالإيمان (هَلْ أَدُلُّكُمْ) أي : وأنا المحيط علما وقدرة فهي إيجاب في المعنى ، ذكر بلفظ الاستفهام تشريفا ليكون أوقع في النفس (عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) أي : مؤلم فقال مقاتل : نزلت في عثمان بن مظعون قال : «يا رسول الله لو أذنت لي طلقت خولة ، وترهبت واختصيت ، وحرمت

__________________

(١) انظر القرطبي في تفسيره ١٨ / ٨٥.

٢٩٦

اللحم ، ولا أنام بليل أبدا ، ولا أفطر بنهار أبدا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن من سنتي النكاح ، ولا رهبانية في الإسلام إنما رهبانية أمتي الجهاد في سبيل الله ، وخصاء أمتي الصوم ، ولا تحرموا طيبات ما احل الله لكم ، ومن سنتي أنام وأقوم وأفطر وأصوم فمن رغب عن سنتي فليس مني ، فقال عثمان : والله لوددت يا رسول الله أيّ التجارة أحب إلى الله تعالى فأتجر فيها ، فنزلت» (١) وقيل : أدلكم ، أي : سأدلكم ، والتجارة : الجهاد ، قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) [التوبة : ١١١] الآية ، وهذا خطاب لجميع المؤمنين. وقيل : نزل هذا حين قالوا : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى لعملنا به. قال البغوي : وجعل هذا بمنزلة التجارة لأنهم يربحون بها رضا الله تعالى ، ونيل جنته والنجاة من النار وقرأ ابن عامر بفتح النون وتشدد الجيم ، والباقون بسكون النون وتخفيف الجيم.

ثم بين سبحانه تلك التجارة بقوله تعالى : (تُؤْمِنُونَ) أي : تدومون على الإيمان (بِاللهِ) أي : الذي له جميع صفات الكمال ، وعلى هذا فلا ينافي ذلك قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وقيل : المراد من هذه الآية المنافقون وهم الذين آمنوا في الظاهر ، وقيل : أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فإنهم آمنوا بالكتب المتقدمة (وَرَسُولِهِ) الذي تصديقه آية الإذعان للعبودية (وَتُجاهِدُونَ) بيانا لصحة إيمانكم على سبيل التجديد والاستمرار (فِي سَبِيلِ اللهِ) أي : الملك الأعظم الذي لا أمر لغيره (بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) وقدم الأموال لعزتها في ذلك الزمان ، ولأنها قوام الأنفس فمن بذل ماله كله لم يبخل بنفسه ، لأن المال قوامها. وقال القرطبي : ذكر الأموال أولا لأنها التي يبدأ بها في الإنفاق (ذلِكُمْ) أي : الأمر العظيم من الإيمان وتصديقه بالجهاد (خَيْرٌ لَكُمْ) أي : من أموالكم وأنفسكم (إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي : إن كان يمكن أن يتجدد لكم علم في وقت فأنتم تعلمون أن ذلك خير لكم ، فإذا علمتم أنه خير أقبلتم عليه فكان لكم به أمر عظيم ، وإن كانت قلوبكم قد طمست طمسا لا رجاء لصلاحه فصلوا على أنفسكم صلاة الموت.

وقوله تعالى : (يَغْفِرْ لَكُمْ) فيه أوجه :

أحدها : أنه مجزوم على جواب الخبر بمعنى الأمر ، أي : آمنوا وجاهدوا.

والثاني : أنه مجزوم في جواب الاستفهام ، كما قاله الفراء.

والثالث : أنه مجزوم بشرط مقدر ، أي : إن تؤمنوا يغفر لكم. قال القرطبي : وأدغم بعضهم فقرأ يغفر لكم ، والأحسن ترك الإدغام فإن الراء متكرر قوي فلا يحسن الإدغام في اللام ، لأن الأقوى لا يدغم في الأضعف ا. ه. وتقدم في آخر سورة البقرة مثل ذلك للزمخشري والبيضاوي ورد عليهما (ذُنُوبَكُمْ) أي : يمحو أعيانها وآثارها كلها (وَيُدْخِلْكُمْ) أي : بعد التزكية بالمغفرة رحمة لكم (جَنَّاتٍ) أي : بساتين (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا) أي : من تحت أشجارها وغرفها وكل منتزه فيها (الْأَنْهارُ) فهي لا تزال غضة زهراء لم يحتج هذا الأسلوب إلى ذكر الخلود لإغناء ما بعده عنه ، ودل على الكثرة المفرطة في الدور بقوله في صيغة منتهى الجموع (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) روى

__________________

(١) أخرجه الزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٥ / ٢٨٦ ، ٩ / ٣٥٥ ، وأخرجه أحمد في المسند ٣ / ٨٢ ، ٢٦٦ ، بلفظ : «عليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام» ، وأخرجه الدارمي في النكاح باب ٣ ، بلفظ : «إني لم أؤمر بالرهبانية».

٢٩٧

الحسن قال : «سألت عمران بن حصين ، وأبا هريرة عن قوله تعالى : (وَمَساكِنَ طَيِّبَةً) فقالا : على الخبير سقطت سألنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عنها فقال : «قصر من لؤلؤة في الجنة في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوتة حمراء ، في كل دار سبعون بيتا من زبرجدة خضراء ، في كل بيت سبعون سريرا ، في كل سرير سبعون فراشا من كل لون على كل فراش سبعون امرأة من الحور العين ، في كل بيت سبعون مائدة على كل مائدة سبعون لونا من الطعام ، في كل بيت سبعون وصيفا ووصيفة فيعطي الله تعالى المؤمن من القوة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كله» (١)(فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ) أي : بساتين هي أهل للإقامة بها لا يحتاج في إصلاحها إلى شيء خارج يحتاج في تحصيله إلى الخروج عنها له ، قال حمزة الكرماني في كتابه «جوامع التفسير» : هي أي جنات عدن قصبة الجنان ومدينة الجنة أقربها إلى العرش (ذلِكَ) أي : الأمر العظيم جدا (الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي : السعادة الدائمة الكبيرة ، وأصل الفوز الظفر بالمطلوب.

ولما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم في الآخرة بشرهم بنعمته في الدنيا بقوله تعالى : (وَأُخْرى تُحِبُّونَها) أي : ولكم إلى هذه النعمة المذكورة نعمة أخرى عاجلة محبوبة ، وفي تحبونها تعريض بأنهم يؤثرون العاجل على الآجل. وقوله تعالى : (نَصْرٌ مِنَ اللهِ) أي : الذي أحاطت عظمته بكل شيء خبر مبتدأ مضمر ، أي : تلك النعمة أو الخصلة الأخرى نصر من الله (وَفَتْحٌ قَرِيبٌ) أي : غنيمة في عاجل الدنيا قيل : فتح مكة قال الكلبي : هو النصر على قريش ، وقال ابن عباس : يريد فتح فارس والروم. وقوله تعالى : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) عطف على محذوف مثل قل (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا* وَبَشِّرِ ،) أو على يؤمنون فإنه في معنى الأمر كأنه قال آمنوا وجاهدوا أيها المؤمنون ، وبشرهم يا أشرف الرسل بالنصر في الدنيا والجنة في الآخرة.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بذلك (كُونُوا) أي : بغاية جهدكم (أَنْصارَ اللهِ) أي : لدينه ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو أنصارا بالتنوين وجر اللام من الاسم الجليل وترقيقها ، والباقون بغير تنوين وتفخيم اللام. (كَما) أي : كونوا لأجل أني ندبتكم أنا بقولي من غير واسطة ولذذتكم بخطابي مثل ما كان الحواريون أنصار الله حين (قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ) حين أرسلته إلى بني إسرائيل ناسخا لشريعة موسى عليه‌السلام (لِلْحَوارِيِّينَ) أي : خلص أصحابه وخاصته منهم (مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي : المحيط بكل شيء أي : انصروا دين الله تعالى مثل نصرة الحواريين لما قال لهم عيسى عليه‌السلام من أنصاري إلى الله ، أي : من ينصرني مع الله تعالى : (قالَ الْحَوارِيُّونَ) معلمين إنهم جادون في ذلك جدا لا مزيد عليه لعلمهم أن أجابته إجابة الله تعالى ، لأنه لا ينطق عن الهوى فليس كلامه إلا عن الله تعالى : (نَحْنُ) أي : بأجمعنا وكانوا اثني عشر رجلا ، وهم أول من آمن بعيسى (أَنْصارَ اللهِ) أي : الملك الأعلى القادر على تمام نصرنا ، ولو كان عدونا كل أهل الأرض.

ولما كان التقدير ثم دعوا كل من خالفهم من بني اسرائيل وبارزهم تسبب عنهم قوله تعالى : (فَآمَنَتْ) أي : به (طائِفَةٌ) أي : ناس منهم أهل الاستدارة لما لهم من الكثرة (مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ)

__________________

(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣ / ٢٥٧ ، وابن الجوزي في الموضوعات ٣ / ٢٥٢.

٢٩٨

قومه (وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ) أي : منهم ، وأصل الطائفة : القطعة من الشيء ، وذلك أنه لما رفع تفرق قومه ثلاث فرق :

فرقة قالوا : كان الله فارتفع.

وفرقة قالوا : كان ابن الله فرفعه إليه.

وفرقة قالوا : كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه ، وهم المؤمنون.

واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا ، وظهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المؤمنة حتى بعث الله تعالى محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى : (فَأَيَّدْنَا) أي : قوينا بعد رفع عيسى عليه‌السلام (الَّذِينَ آمَنُوا) أي : أقروا بالإيمان المخلص (عَلى عَدُوِّهِمْ) أي : الذين عادوهم لأجل إيمانهم (فَأَصْبَحُوا) أي : صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل (ظاهِرِينَ) أي : عالين غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحدا ولا يستخفون منه ، وروى المغيرة عن إبراهيم قال : فأصبحت حجة من آمن بعيسى عليه‌السلام ظاهرة بتصديق محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن عيسى عليه‌السلام كلمة الله وعبده ورسوله. وقول البيضاوي تبعا للزمخشري عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الصف كان عيسى مصليا عليه مستغفرا له ما دام في الدنيا وهو يوم القيامة رفيقه» (١) حديث موضوع.

__________________

(١) ذكره الزمخشري في الكشاف ٤ / ٥٢٩.

٢٩٩

سورة الجمعة

مدنية وهي إحدى عشرة آية ، ومائة وثمانون كلمة ، وسبعمائة وعشرون حرفا.

روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ، فيه خلق آدم ، وفيه أدخل الجنة ، وفيه أخرج منها ، ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة» (١) وعنه أيضا قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم «نحن الآخرون يوم القيامة ، ونحن أول من يدخل الجنة بيد أنهم أوتوا الكتاب الأول من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم فاختلفوا فهدانا الله تعالى لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فهذا يومهم الذي اختلفوا فيه هدانا الله له» (٢) وقال يوم الجمعة : «فاليوم لنا ، وغدا لليهود ، وبعد غد للنصارى» (٣).

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ) الذي أحاط علمه بكل معلوم فتم بيانه (الرَّحْمنِ) الذي تمت نعمة بيانه فهو العظيم شأنه (الرَّحِيمِ) الذي خص حزبه بالتوفيق فثبت عندهم حبه وإيمانه.

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٣) ذلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٤) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٧) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨))

(يُسَبِّحُ) أي : يوقع التنزيه الأعظم الأنهى الأكمل (لِلَّهِ) أي : الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلما (ما فِي السَّماواتِ) أي : من جميع الأشياء من الملائكة وغيرها كالأفلاك والنجوم (وَما فِي الْأَرْضِ) كذلك من الآدميين وغيرهم كالشجر والثمار ، وقيل : اللام مزيدة ، أي : ينزه

__________________

(١) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٨٥٤ ، وأبو داود في الصلاة حديث ١٠٤٦ ، والترمذي في الجمعة حديث ٤٨٨ ، والنسائي في الجمعة حديث ١٣٧٣.

(٢) أخرجه مسلم في الجمعة حديث ٨٥٥ (١٩ ، ٢٠).

(٣) انظر الحاشية السابقة.

٣٠٠